بغض النظر عن المسار الذي ستكون عليه نتيجة زيارة وزير الخارجية الفرنسية جان إيف لودريان إلى بيروت، سواء قادت إلى الإسراع في تشكيل الحكومة أو إلى إعلان فشلها أو إلى الإستمرار في المراوحة، يمكن الجزم بأن باريس فشلت، بعد ما يقارب 9 أشهر، من إثبات أنها لا تزال الدولة التي تحظى بمكانة واسعة لدى الأفرقاء السياسيين اللبنانيين، بدليل طريقة التعامل مع التهديدات التي كانت قد سبقت زيارة رئيس دبلوماسيتها، حيث تحول من الشخص المُهدِّد إلى المُهَدَّد من قبلهم، في حال قرر الذهاب بعيداً في المواقف التصعيدية.
في هذا السياق، ينبغي الإشارة إلى أنّ المبادرة الفرنسيّة نفسها كانت قد تعرضت إلى مجموعة واسعة من التعديلات، لا سيما بعد فشلها في الجولة الأولى التي كانت تقوم على تسمية السفير اللبناني في برلين مصطفى إديب، قبل أن يعتذر الأخير وتتم تسمية رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، على وقع الضربات التي كانت قد وجهت لها من قبل جهات دولية وإقليمية، خصوصاً الولايات المتحدة التي استمرت في سياسة فرض العقوبات في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.
قبل ذلك، كان من الواضح أنّ الدخول الفرنسي على خط الأزمة اللبنانية ينطلق من فرضية القدرة على إحداث خرق في الوقت الضائع، على قاعدة إنشغال اللاعبين الأساسيين في ملفات أخرى أكثر أهمية بالنسبة لهم، وسعت باريس إلى محاولة لعب دور الوسيط للحصول على تفويض بإدارة الملفّ المحلّي، إلا أنّها لم تنجح في هذا الأمر بسبب مواقف القوى الإقليمية والدولية التي ليست في وارد تقديم تنازلات، بينما هي على أبواب الدخول في مفاوضات مصيرية.
في هذا الإطار، يمكن القول إن فرنسا فقدت أدوات السياسة التي سعت إلى إعتمادها، أي "العصا والجرزة"، نظراً إلى أنها لم تنجح في إغراء الأفرقاء المحليين لتقديم تنازلات، حيث أنهم كانوا يتطلعون إلى مواقف باقي اللاعبيين الإقليميين والدوليين، وعندما قررت إعتماد الشدة معهم لم تكن قادرة على دفع دول الإتحاد الأوروبي إلى الذهاب لقرار موحد بفرض عقوبات، الأمر الذي أجبرها على الحديث عن أخرى فرنسيّة لا ترتقي إلى المستوى المطلوب.
إنطلاقاً من ذلك، هناك من يعتبر أنّ فشل المبادرة الفرنسيّة هو فشل لباريس بالدرجة الأولى، لا سيّما أنّ أيّ تصعيد من الممكن أن تذهب إليه سيكون له تداعيات عليها، فهو من حيث المبدأ يعني خروجها من الساحة التي كانت تطمح إلى أن تكون حصتها في منطقة الشرق الأوسط بعد خسارتها لدورها في ساحات أخرى، كما أنّه يعني فشل الرهانات التي وضعها الرئيس إيمانويل ماكرون، والتي دفعته إلى زيارة لبنان أكثر من مرة.
الأسباب الرئيسيّة لهذا الفشل، تكمن بأنّ باريس لم تقرأ جيداً الواقع اللبناني، لا سيما بالنسبة إلى العقبات والمصالح الخارجيّة التي ترافق الأزمة، حيث ظنت أنها من خلال تعاملها مع الأفرقاء المحليين يمكنها أن تنجز التسوية التي تستفيد منها، بينما كان عليها العمل مع الأفرقاء الإقليميين والدوليين قبل ذلك، أو إختيار وقت أفضل للدخول على الخط من أجل لعب دور الوساطة لا يكون فيها هؤلاء الأفرقاء في طور الذهاب إلى سياسة التصعيد القصوى، من دون تجاهل تعدّد وجهات النظر داخل الإدارة الفرنسية نفسها، الأمر الذي أثر على التوجهات.
في المحصّلة، يمكن التمييز في هذا المجال بين التوجهين الفرنسي والروسي لفهم حقيقة ما حصل مع باريس، فموسكو، رغم المشاورات التي تقوم بها منذ أشهر، لم تذهب للحديث عن مبادرة أو عن ضغوط، لقناعتها بأنّها لا تملك القدرة على ذلك، نظراً إلى أن القوى الأساسية المؤثرة لا تزال هي واشنطن والرياض وطهران.